“مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ” بقلم : الشيخ صفوت فريج رئيس الحركة الاسلامية

سأل معاذ بن جبل رضي الله عنه: يا نبي الله، وإنّا لمؤاخذون بما نتكلّم به؟ فقال عليه الصلاة والسلام: ثَكِلَتْكَ أُمُّك يا معاذ، وهل يكُبُّ الناس في النارِ على وجوههم إلا حَصائد ألسنتِهِم؟.
بدأ الإسلام بكلمة واحدة (اقرأ)، ويمكن أن نتعبّد بحرف واحد أو كلمة واحدة، فبعض آيات القرآن الكريم مركّبة من كلمة أو حتّى حرف. كذلك يمكن أن يحلّ علينا غضب الله من كلمة، كأن نقول “أفّ” لأمّهاتنا. كلّ ذلك إشارة إلى أنّ للكلمة وزنها، في الخير والشر.
وأولى درجات الخير في الكلام أن لا نقول إلّا صدقًا، فقد ذكر الله “الصادقين والصادقات”، وحثّ نبيّ الله على الصدق واعتبره طريق المرء إلى الجنّة، وأنّ الكذب طريق المرء إلى النار: “إنّ الصدق يهدي إلى البر، وإنّ البر يهدي إلى الجنّة، وإنّ الرجل ليصدق حتّى يُكتب عند الله صدّيقًا. وإنّ الكذب يهدي إلى الفجور، وإنّ الفجور يهدي إلى النار، وإنّ الرجل ليكذب حتّى يُكتب عند الله كذّابًا”.
ولكن علينا أن نحذر من تعريف الصدق، فبعض الناس ينقل أخبارًا سمعها فعلًا، وينقلها صادقًا تمامًا وفق ما سمعه، لكنّه لا يتحرّى الصدق في تلك الأخبار، وحينها قد يكون سببًا في انتشار أنباء كاذبة قد لا يُحمد عقباها، والواجب والدين والشرع والأخلاق يحتّمون علينا تحرّي الصدق في الخبر قبل نقله- هذا إن كانت ثمّة حاجة لنقله، فقد قال عليه الصلاة والسلام “كفى بالمرء كذبًا أن يحدِّث بكلِّ ما سمع”-، وتوعّد الله من لا يتبيّن صحّة الأخبار بالندامة والخسران: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ”. صدق الله العظيم.
والتوثّق من الخبر أساس الدين، فهذه أحاديث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، لا تُقبل إلّا ممّن عُهد عليه الصدق، وقد ورد في الأثر عن التابعين قولهم فيمن روى حديثًا عن رسول الله: “سمّوا لنا رجالكم”. وهذا أدّى إلى نشأة علم السند وعلم الجرح والتعديل. فقد فهم الصحابة والتابعون ومَن بعدهم أهمّيّة التوثّق من الخبر أو الحديث قبل نشره، وأنّ الإنسان مكلّف ومؤتمن قبل نشر الخبر على تحرّي صحّته، لما في ذلك من تداعيات على الدين وحياة المجتمع المسلم، حتّى أنّه جاء في الأثر أيضًا أنّ من قال برأيه دون علم في أمر ما وأصاب فهو كاذب، نعم إلى هذا الحدّ. وهذه ليست نصوصًا وتوجيهات كماليّة، بل كلّها توجيهات أساسيّة لبناء مجتمع متعاون تسوده علاقات متينة نافعة وصادقة، وفي هذا تحقيق لمصالح العباد.
لكنّ بعض الفاسقين منكبّون على النخر في كلّ ما هو صالح في المجتمع، فتراهم ينالون من فلان بأكاذيب أو محاولات تشويه وبثّ افتراءات وأكاذيب وأباطيل، ويكونون سببًا في عموم البلوى بين الناس، وانتشار الفساد والنزاع والشقاق. كم من إشاعة كانت سببًا في إراقة دماء أو إزهاق روح؟ كم من كذب كان سببًا في إحداث فرقة بين الإخوة؟ كم من افتراء كان سببًا في دمار بيوت وأسر وعائلات؟ كم من تشويه هدم أواصر القربى أو يتّم أو فصل؟ وكلّ ذلك لغايات رخيصة وأهداف دنيئة، وكثيرًا ما يُستغلّ شرفاء الناس والمجتمع ليتسلّق على أكتافهم الأقزام بالكذب والافتراء والتشويه، “وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ”.
عمومًا هي حال الدنيا. ولم يسلم رسولُ الله من الكذب عليه حتّى يسلمَ غيرُه، بل قد اتُّهم- بأبي هو وأمّي- بأقسى ما يمكن أن يؤذي البشر، وما كان ذلك إلّا ليكون عبرة بأن لا حصانة لنا، وإن هي إلّا مطبّات على الطريق يمرّ فيها المؤمنون، فطوبى لمن صبر واحتسب أجره عند الله، و”إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا”.
نسأل الله تعالى أن يعيننا على فهم كلامه والعمل بموجبه، لنكون من الصادقين المتيقّظين، لا يخدعنا فاسق ولا تجرّنا العجلة لفعل ما لا يُرضي الله سبحانه. اللهمّ إنّا نسألك العفو والعافية، في الدين والدنيا والآخرة.
